ثقافة قراءة في جوائز قسم "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي 2018
بقلم الناقد الطاهر الشيخاوي-مراسلنا من مهرجان كان السينمائي
لا أحد يعرف جزئيات ما يجري في لجان التحكيم إلا من شارك فيها أو كان مقربا من الأعضاء المكونة لها. فلا داعي إذًا إلى الدخول في النوايا والمسؤوليات. إذ تختلف الحالات اختلافا كبيرا من لجنة إلى أخرى، فهناك لجان يسودها الاتفاق وهناك لجان تعبرها خلافات كبيرة، فتُصدر قرارات غريبة لا يتبناها أي عضو بمفرده.
لا داعي إذا إلى التخمينات ولكن يمكننا إبداء الرأي في جوائز قسم "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي مقارنة مع مستوى الأفلام كما تراءت لنا، فشريط "غرانس" (حدود)، الذي تحصل على الجائزة الأولى، بدا لنا فعلا من أهم الأعمال التي شاهدناها في هذا القسم. علي عباسي مخرج دانماركي من أصول إيرانية، نال إعجاب النقاد بشريطه الأول "شيلاي" في مهرجان برلين سنة 2016، وهو من جنس الرعب.
وشكل "حدود" أيضا حدثا في كان. يروي قصة شرطية جمركية تملك قدرة غريبة على ضبط المسافرين الحاملين لسلع ممنوعة مهما كان ذكاؤهم أو تحيلهم. لاتكمن قدرتها في امتلاكها لأصول علم النفس أو لتقنيات البحث البوليسي، ولكن في حاسة الشم، فعندها ملكة شم غريبة لا يمكن للمحتال أن يفلت منها.
نكتشف شيئا فشيئا أن هناك إشكال في انتمائها للجنس البشري. فيلم مثير للدهشة يتنزل بين الواقعية والعجائبية، يسائل الإنسان انطلاقا منه ومن خارجه، تختلط فيه الحدود بين الوحشي والإنساني.
اكتشف علي عباسي الموضوع لما عثر على قصة للكاتب السويدي دجون أجفيد ليندكفيست مؤلف رواية "اسمح لي بالدخول" التي اقتبسها توماس الفريدسون في شريطه المشهور "مورس" سنة 2008.
أما جائزة أفضل سيناريو فكان من نصيب المخرجة الفرنسية المغربية مريم بن مبارك "صوفيا"، وهو أيضا عمل نال استحسان الجمهور والنقاد. هو أول عمل للمخرجة الشابة المغربية خريجة المعهد الوطني العالي لفنون العرض ببروكسل، وكانت أنجزت سابقا شريطا قصيرا، "جناح"، نال كذلك الإعجاب.
أن تتحصل مريم بن مبارك على جائزة أفضل سيناريو أمر منطقي ومفهوم لأن أساس الفيلم يرتكز على تطور الأحداث وحبكتها. لن نفشي كل تفاصيل الحكاية ولكن يمكن الإقتصار على القول بأن الموضوع يتناول العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج وما يترتب عنه من عواقب نظرا للقوانين المعمول بها في المغرب الأقصى.
تجد صوفيا نفسها في مأزق يوم تكتشف أنها حامل وهي غير متزوجة. تدور أحداث القصة في الدار البيضاء داخل عائلة من البورجوازية الصغيرة. خشينا أن نشاهد فلما آخر حول وضع المرأة العربية بطريقة يطغى فيها البؤس على التعمق في الدواعي النفسية والثقافية والاجتماعية للموضوع، ولكن فاجأتنا مريم بن مباركة مفاجأة سارة بتقديم عمل فيه من الذكاء ما يبعدنا على الكليشيهات البالية.
تحصل أيضا شريط "غورل" (فتاة) على جائزة أفضل ممثلة وهو من اخراج لوكاس دهونت، سينمائي بلجيكي شاب من مواليد1991. فيلم هام يروي قصة شاب يرغب في تغيير جنسه رغبة جانحة قوية وعنيفة.
يتوفق المخرج في تتبع الشاب عن قرب لملامسة ما يشعر به من ازعاج وقلق، يفعل ذلك في مقاربة لطيفة وقوية من شأنها أن تحرك سواكن مجتمع لا يزال يعيش مخاضا في هذا المجال، وتكمن فعلا أهمية الفيلم في أداء الممثل ربما أكثر من الأبعاد الأخرى الإجتماعية أو الثقافية التي لم يتعرض لها باطناب.
الجائزة الوحيدة التي يمكن في رأيي أن تكون محل نقاش هي جائزة الإخراج التي كانت من نصيب فيلم "دونباس" لسرغاي لوزنيتسا، فالعمل يطرح أكثر من سؤال، لا من حيث براعة المخرج، فهذا لا شك فيه وكان أثبت جدارته في السنة الماضية في "إمرأة رقيقة".
فلا شك أن قدرته الفائقة على إيجاد ما يتناسب تماما مع ما يرغب في التعبير عنه، على إيجاد الحركة الأكثر نجاعة لإيصال فكرته.
ولكن، وكنا أكدنا على هذا الموضوع مرارا، لا يعني ذلك أبدا أن النجاعة والجدارة كافيتان لتبرير كل القيم. فالأمر لا يخلو من الغموض في شريط "دنباس" لأن سرغاي لوزنيتسا كان في حالة من الغضب تجاه العصابات الموالية لروسيا لم تمكنه من الإبقاء على ما تقتضيه هذه المسؤولية من دقة وتنسيب.